فصل: تفسير الآية رقم (165):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (165):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
{وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} أي يخلف بعضكم بعضًا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر، وإلى هذا ذهب الحسن، أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها كما قيل والخطاب عليهما عام، وقيل: الخطاب لهذه الأمة، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل {درجات} كثيرة متفاوتة {لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتاكم} أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه.
{إِنَّ رَبَّكَ} تجريد الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلى الله عليه وسلم {سَرِيعُ العقاب} أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات. وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي. وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الأنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.
ومن باب الإشارة في الآيات: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} بالله تعالى وأثبتوا وجودًا غير وجوده {لَوْ شَاء الله} تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا} به سبحانه شيئًا {وَلاَ} أشرك {ءابَاؤُنَا} من قبلنا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْء} قالوا ذلك تكذيبًا للرسل عليهم السلام {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} وقالوا مثل قولهم {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب {قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بالبيان {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] لأنكم محجوبون في مقام النفس {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم.
{فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك. وتحتمل الآية وجوهًا أخر لعلها غير خفية {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم {وبالوالدين} أي الروح والقلب أحسنوا {إحسانا} برعاية حقوقهما {وَلاَ تَقْتُلُواْ} أي تهلكوا {أولادكم} قواكم باستعمالها في غير ما هي له {مّنْ إملاق} أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف قدار إذا توجهتم إلينا {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} الأعمال الشنيعة {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كأفعال الجوارح {وَمَا بَطَنَ} كأفعال القلب {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} تعالى قتلها {إِلاَّ بالحق} [الأنعام: 151] أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلًا متلبسًا به، وهو قتلها إذا مالت إلى السوي {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} وهي التصديق بذلك إجمالًا وعدم إنكاره {حَقّ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فيقوى على قبول أنواع التجليات، وحينئذٍ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم. ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى {وَأَوْفُوا الكيل} أي كيل الشرع راعاة الحقوق الظاهرة {والميزان} أي ميزان الحقيقة راعاة الحقوق الباطنة {بالقسط} بالعدل {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أي لا تقولوا إلا الحق {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} [الأنعام: 152] وهو التوحيد {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا} غير مائل إلى اليمين والشمال {فاتبعوه} لتصلوا إلى الله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} التي وصفها أهل الاحتجاب {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لتوفي أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ} وهو الكشف عن ساق {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} وهو الكشف المذكور {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] حينئذٍ لانقطاع التكليف. {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس {وَكَانُواْ شِيَعًا} فرقًا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} في جزاء تفرقهم {ثُمَّ يُنَبّئُهُم} عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة {ا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام؛ 159] من السيئات واتباع الهوى {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذا كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو طريق التوحيد الذاتي {دِينًا قِيَمًا} ثابتًا لا تنسخه الملل والنحل {مِلَّةِ إبراهيم} التي أعرض بها عن السوي {حَنِيفًا} [الأنعام: 161] مائلًا عن كل دين فيه شرك {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى} حضوري وشهودي بالروح {وَنُسُكِى} تقربي بالقلب {وَمَحْيَاىَ} بالحق {وَمَمَاتِى} بالنفس {للَّهِ رَبّ العالمين} [الأنعام: 162] لا نصيب لأحد مني في ذلك {لاَ شَرِيكَ لَهُ} في شيء أصلًا إذ لا وجود سواه {وبذلك} الإخلاص وعدم رؤية الغير {أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} [الأنعام: 163] المنقادين للفناء فيه سبحانه. {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا} فأطلب مستحيلًا {وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَيْء} أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} بأن جعلكم له مظهر أسمائه {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت {لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم} ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه ون لا يقوم {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} لمن لم يراع {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] لمن يراعي ذلك، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرًا من ماضيه.

.سورة الأعراف:

بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج أبو الشيخ وابن حبان عن قتادة قال: هي مكية إلا آية: {واسألهم عن القرية}.
وقال غيره: إن هذه إلا {وإذ أخذ ربك} مدني.
وأخرج غير واحد عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا.
وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي فـ {المص}، و{بدأكم تعودون} كوفي و{مخلصين له الدين} بصري وشامي و{ضعفا في النار} و{الحسنى على بني إسرائيل} مدني وكلها محكم وقيل: إلا موضعين: الأول: {وأملي لهم} فإنه نسخ بآية السيف والثاني {خذ العفو} فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد وادعى أيضا أن {وأعرض عن الجاهلين} كذلك وفيما ذكر نظر وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هو الذي خلقكم من طين وقال سبحانه في بيان القرون: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض} ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة وقال سبحانه في قصة عاد: {جعلناكم خلفاء من بعد قوم نوح} وفي قصة ثمود: {جعلناكم خلفاء من بعد عاد} وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم: {كتب على نفسه الرحمة} وهو كلام موجز وبسط سبحانه هنا بقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} إلخ.
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه}، {هذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه} وافتتح هذا الأمر باتباع الكتاب وأيضا لما تقدم: {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}، {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} قال جل شأنه في مفتتح هذه: {فلنسألن الذين أرسل إليهم} إلخ وذلك في شرح التنبئة المذكورة وأيضا لما قال سبحانه: {من جاء بالحسنة} الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل: {والوزن يومئذ الحق} ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاتهم.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{المص (1)}
بسْم الله الرحمن الرَّحيم. {المص} سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا: إن معنى ذلك المصور وروي ذلك عن السدي، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل، واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد؛ وقيل: المراد به ألم نشرح لك صدرك. وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت بألم إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين، وزيد في هذه السورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم راده.

.تفسير الآية رقم (2):

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
وقوله سبحانه: {كِتَابٌ} على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب، وقوله سبحانه: {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من عنده تعالى صفة له مشرفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى الله عليه وسلم. وبني الفعل للمفعول جريًا على سنن الكبرياء وإيذانًا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة، كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر، وإن كان المجموع فلتحققه جعل كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا: إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قولهم: ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل {كِتَابٌ} مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هذا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى.
{فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز كما في الأساس علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.
وجوز أن يكون باقيًا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] الآية. وللأول قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [يونس: 94] وقد يقال: إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.
وتوجيه النهي إلى الحرج عنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل: إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفى له بالمرة كما في قوله سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} [المائدة: 8] وليس هذا من قبيل لا أرينك هاهنا فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادًا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل. انتهى.
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل لا أرينك هاهنا في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضًا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه، ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلًا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة كما يفهمه كلام الكشاف كناية عن عدم المبالات بالأعداء. وأيًا ما كان فالتنوين في {حَرَجٌ} للتحقير، ومن متعلقة بما عندها أو حذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أو لا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل: إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ. وقال الفراء إنها اعتراضية، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعًا، ولترتيب ما ذكر على الإخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابًا منزلًا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في القيام بحقه فإن كلًا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعًا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.
{لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم، وقد يقال: إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير. قيل: وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبًا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك على ما قيل من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج.
أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلًا عليه عليه الصلاة والسلام خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة تعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرًا في صدرك لأجل الإنذار، وقيل: إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناءً على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح، وقيل: يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني: إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي كما قيل لفساد المعنى. وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلى الله عليه وسلم مشعر بأن المنهي عنه ليس حذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه؛ وأنت خبير بأن كون المنهى عنه محذورًا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلًا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناءً على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصًا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبًا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرًا للتفسير الثاني، سلمنا أنها نص لكنا نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1، 2] الآية.
{وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} نصب بإضمار فعله عطفًا على {تنذر} أي وتذكر المؤمنين تذكيرًا. ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل {لّتُنذِرَ} معللًا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحدًا حتى يجوز حذف اللام منه. ويمكن كما في الكشف أن يقال: لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير.
ويحتمل الرفع على أنه معطوف على {كِتَابٌ} أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى، والفرق بين الوجهين على ما في الكشف أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابًا كاملًا في شأنه بالغًا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد. والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابًا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى، لفظًا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام.